قبرص المقسمة بين الحوار التركي ـ اليوناني العقيم ومصالح الدول الكبرى

قبرص المقسمة بين الحوار التركي ـ اليوناني العقيم ومصالح الدول الكبرى
كاظم نوري *
بدت الحكومة القبرصية اكثر تشاؤما من ذي قبل ازاء حصول انفراج محتمل في المفاوضات التركية ـ اليونانية التي تجرى في نيويورك برعاية الامم المتحدة حول توحيد الجزيرة المقسمة بين تركيا واليونان حيث تعيش الجاليتان القبرصية التركية والقبرصية اليونانية في ظل اجواء متوترة منذ اجتاحت القوات العسكرية التركية قبرص عام 1974 وبقيت مرابطة فيها حتى الآن واضعة خطاً فاصلاً بين الجاليتين القبرصيتين مما تسبب في توتر العلاقات بين انقرة واثينا طيلة السنوات الماضية. وعزا المتحدث باسم الحكومة القبرصية هذا التشاؤم إلى موقف المفاوض التركي متهما إياه بعدم التخلي عن القضايا السلبية التي يكرر طرحها في جولات المفاوضات المتعاقبة مما يحول دون احراز تقدم واصفا الحوار التركي ـ اليوناني بحوار الطرشان.
ورغم دعوات الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان المتكررة الموجهة إلى الطرفين لاجراء مفاوضات حول الجوهر ووضع حد لما اسماه انان «المحادثات حول المحادثات»، فإن الحكومة القبرصية باتت تشكك بفرص نجاح مباحثات السلام التي استؤنفت جولتها الرابعة في نيويورك أخيراً داعية الطرف التركي بالتخلي عن موقفه السلبي مشعرة الاسرة الدولية بخيبة املها في ظل انعدام التقدم بالمفاوضات.
ومن بين القضايا مدار البحث في الجولة الرابعة التي تعقبها جولة جديدة منتصف شهر اكتوبر المسائل المتعلقة بالارض والدستور، وهي في صلب النزاع حيث يسعى الرئيس القبرصي غلافكوس كليريدس إلى مقايضة اعادة الاراضي التي اصبحت بقبضة القوات التركية منذ احتلال الجزيرة قبل 26 عاما باصلاحات دستورية تمنح القبارصة الاتراك نوعا من الحكم الذاتي، وتبقى قضايا الامن والملكية والعقارات هي الاخرى عقبة كأداء في طريق حل خلافات الجانبين.
التكيّف مع القيم والمبادئ واليونان التي لها مشاكل كثيرة مع تركيا تذكر انقرة دوما بتعهداتها اعتماد المعايير الاوروبية في علاقاتها مع نيقوسيا واثينا تلك المعايير التي تعهدت بالسير على خطاها تركيا خلال قمة هلسنكي التي عقدت في شهر ديسمبر الماضي بحضور زعماء دول الاتحاد الاوروبي والتكيف مع القيم والمبادئ والمتطلبات الاوروبية إلا ان تركيا ما زالت تنتهج سياسة تتقاطع مع القرار السياسي المتخذ في قمة هلسنكي الذي ينص على انضمام الجمهورية القبرصية إلى الاتحاد الاوروبي بمعزل عن اي حل سياسي للوضع في الجزيرة المقسمة استناداً إلى قاعدة الاحترام المتبادل لبنود الاستقرار والتعاون التي توصي بها المنظمات الدولية.
وفي الوقت الذي تتوقع فيه وسائل الاعلام في القسم اليوناني من قبرص ان يقدم الرئيس القبرصي كليريدس تنازلات تبدد العقبات التي تعترض سير المفاوضات ولكن في اجواء ودية اقدمت تركيا على خطوة استبقت فيها المفاوضات تمثلت بتوجيه رسالة إلى الدول الـ 15 الاعضاء في الاتحاد الاوروبي عبر وزير خارجيتها اسماعيل جيم طلبت فيها من دول الاتحاد استثناء قضية قبرص والخلافات التركية اليونانية في بحر ايجه من مسألة انضمام تركيا إلى المجموعة الاوروبية في الوقت الذي تعهدت فيه انقرة وامام قمة هلسنكي بالتكيف مع مبادئ الاتحاد الاوروبي وقبول تطبيع علاقاتها مع اليونان وقبرص.
ومشكلة قبرص المقسمة بين تركيا واليونان ليست وحدها العائق الذي يحول دون تطبيع العلاقات بين بلدين عضوين في حلف شمال الاطلسي (ناتو) تسند إليهما مهام معروفة في الازمات التي تنشب في منطقتي الشرق الاوسط والبلقان ومناطق اخرى نظرا لموقعهما الاستراتيجي المهم بالنسبة لحلف ناتو بل ان هناك نزاعات اساسية بين انقرة واثينا تتعلق ببحر ايجه والجزر والمجال الجوي والجرف القاري الذي تصر اليونان على احالته إلى محكمة العدل الدولية وهو ما ترفضه تركيا.
ولم تخف تركيا امتعاضها من بطء التقدم في تطبيع العلاقة مع اليونان مثلما تتهم الحكومة القبرصية انقرة بعدم التخلي عن القضايا السلبية عندما تعتبر اثينا بانها تبتعد عن اهم المشكلات في الحوار التركي اليوناني الذي يجرى باشراف دولي رغم اقرار انقرة بان العام الماضي شهد دفئاًَ في العلاقات التركية اليونانية تمثل في توقيع اتفاقات لها صلة بالسياحة ومكافحة الارهاب.
الثقل الأميركي ـ البريطاني ان اشراف الامم المتحدة على المفاوضات التركية اليونانية لتوحيد جزيرة قبرص لم يحل دون ان ترمي الولايات المتحدة وبريطانيا اللتان لهما مصالح مهمة في قبرص وتركيا واليونان بثقلهما من اجل اقناع انقرة واثينا وتحقيق اختراق في الحوار الدائر حالياً في نيويورك، لكن سير المفاوضات يشير إلى عدم تحقيق نجاح لتردد واشنطن ولندن في ممارسة الضغوط على اي طرف من الاطراف المتحاورة او ترجيح مطالب طرف على حساب طرف اخر في مفاوضات عسيرة لخشيتهما من ايجاد ثغرة في جناح حلف ناتو ممثلا بتركيا واليونان قد تدفع احد الطرفين إلى انتهاج سياسة ربما تؤثر في استراتيجية ناتو وقدراته العسكرية على المدى البعيد لما تقدمه هاتان الدولتان بجانب قبرص من تسهيلات عسكرية اضافة لوجود قواعد عسكرية بحرية وبرية دائمة في مياه واراضي الدول الثلاث وجدت لخدمة مصالح واشنطن ولندن في اطار حلف ناتو، فأهداف ومصالح الدول الكبرى في حلف شمال الاطلسي هي التي تمنعها من ممارسة ضغوط على طرف من الاطراف للاقرار بشروط الطرف الاخر والاذعان لها لخشيتها من خروج احد الاطراف من المعادلة التي تسير على هداها الولايات المتحدة وبريطانيا في حال ممارسة ضغوط جدية حتى لو بقيت الاوضاع في جزيرة قبرص على حالها واستمرت لسنوات اخرى طالما ان تلك الاوضاع لا تؤثر سلبا في نشاطات وخطط حلف ناتو العسكرية بغض النظر عن الخلافات القائمة بين تركيا واليونان التي اكدت احداث كوسوفو وما رافقها من عمليات جوية للحلف ضد يوغوسلافيا السابقة انها خلافات لم تؤثر في سير عمليات ناتو التي شاركت فيها انقرة واثينا على حد سواء.
وترجح الولايات المتحدة وبريطانيا بالطبع اعادة الاوضاع والعلاقة بين تركيا واليونان إلى ما كانت عليه قبل اجتياح القوات التركية لجزيرة قبرص وتسوية الخلافات حول الجرف القاري وجزر في بحر ايجه. لكن الموضوع شائك وصعب لارتباطه بقبول تركيا في الاتحاد الاوروبي واعادة توحيد جزيرة قبرص الذي تحول دون تحقيقه ملفات مطروحة امام المفاوضين يصر كل طرف على اقرار الطرف الاخر بها وهي ملفات ظلت ساخنة ولم تتمكن الامم المتحدة التي اشرفت على جولات سابقة من المفاوضات من اقناع الطرفين بتقديم حلول بديلة منها وقد انعكس ذلك في ترديد الأمين العام للامم المتحدة مقولته الشهيرة التي تمثل حالة من اليأس خلال بدء جولة المفاوضات الرابعة «ادعو لوضع حد للمحادثات حول المحادثات» واجراء مفاوضات حول الجوهر.
* صحافي وكاتب عراقي مقيم في بريطانيا

تعليقات