الأربعاء، 6 يناير 2016

الاحتلال العثماني روائيا

التحرر والتحرير في الرواية العربية
نبيل سليمان
أنجزت الرواية العربية المرحلة الأولى من تطورها خلال النصف الأول من القرن العشرين على إيقاع الكفاح من أجل التحرر من الاستعمار التركي (العثماني) والانكليزي والفرنسي. وربما كانت رواية (عذراء دنشواي ـ 1909) لمحمود طاهر حقي (1884- 1963) هي العلامة الفارقة في هذا السياق، لما كان للتخييل من شأن فيما رسمت من الصراع بين الاحتلال الانكليزي وفلاحي قرية دنشواي المصرية، وكذلك لتعدد مستويات اللغة والسرد والحوار في الرواية. وعلى نحو أدنى جاءت رواية )بين عرشين ـ 1912) لفريدة عطايا (لبنان) التي عُنيتْ بدواخل الشخصيات واستثمرت الاسترجاع وهي تسرد ما عانت أسرة أرمنية جراء المجازر التركية. وكذلك بدت رواية (الوريث ـ 1920) لخليل بيدس فيما صورت من سلبية الشخصية اليهودية في الراقصة المصرية التي علقها شاب من سورية. أما رواية (الرغيف ـ 1939) لتوفيق يوسف عواد (1911 ـ 1988) فقد مثلت علامة فارقة جديدة في التطور الروائي عبر بنائها الذي يخاطب دورة الطبيعة وعبر عنايتها باليومي في اللغة والعلاقات وهي تستعيد تفتح الوعي القومي إبان الثورة العربية ضد الأتراك 1916، كما مثلته ـ انطلاقاً من فضاء القرية اللبنانية ـ الشخصيات الروائية العربية والتركية. وفي مصر شُغِلَتْ رواية عادل كامل (ملّيم الأكبر ـ 1944) براهنها من موران المجتمع المصري ضد الاحتلال الانكليزي. وهو ما سيشغل نجيب محفوظ في نهاية هذه المرحلة (زقاق المدق ـ 1947 مثلاً) وهذا ما سيتواتر حضوره أيضاً في كثير من روايات محفوظ منذ الثلاثية، وحسبي الإشارة إلى ثورة 1919. كما يشار هنا إلى رواية ذو النون أيوب 1908 ـ 1988 (البدو الأرض والماء ـ 1948) حيث ترجّعت البدايات الروائية في تصوير المظاهرات ضد الاستعمار الانكليزي والسلطة فيما يعرف في العراق بوثبة 1948.
في مرحلة ما بعد الكولونيالية، وحيث استوى عود الرواية العربية، طرأت عوامل عديدة ومتفاوتة الأثر فيما بين الرواية والتحرر الوطني. من ذلك تأخرُ بعض الاستقلالات بالاقتران مع تأخر وظهور الرواية أو نضجها في بعض البلدان. وفي هذا السياق استعادت رواية عبد الكريم غلاب (سبعة أبواب ـ 1965) تجربة الكاتب في السجن الفرنسي بدعوى تهديد أمن الدولة وتكوين حزب محظور. وقد تراءت عبر الهيمنة السيرية على الرواية (الجماعةُ الصغيرةُ) التي ينتمي إليها الراوي ـ وكما عبّر ـ شمعةً هزيلةً في ظلمات عميقة. وهذه الجماعة التي ترمز بها الرواية إلى قيادة الحركة الوطنية المغربية تتمحور حول الراوي الذي يرصد ما يجري خارج السجن، ويسرد القصص الهامشية للسجناء الآخرين، ولا يفتأ يتدخل في السرد إلى أن يختم الرواية بالحلم بعودة الملك المنفي وبالاستقلال. وقد عاد غلاب إلى تلك المرحلة في رواية (دفنا الماضي ـ 1966) التي يحمل بطلها عبد الرحمن الكثير من سمات بطل الرواية السابقة. فهو يشارك في المظاهرات ويُسجن ثلاث مرات وينتمي إلى الزمرة الصغيرة التي تتعدد صفاتها، فهي المختارة والمفكرة والنخبة والطبقة الأولى، مذكّرةً بالجماعة الصغيرة في الرواية السابقة. ومثل عبد الرحمن ينتمي عبد العزيز إلى هذه الحركة التي تقود الكفاح ضد الاستعمار، لكن الأمر ينتهي بعبد العزيز إلى الإعدام. ومقابل هاتين الشخصيتين من الجيل الجديد يأتي من الجبل نفسه محمود الذي كان قاضياً يحاكم الوطنيين، ويقضي في حادث سير، مرمزاً بموته لموت الخيانة، مثلما يرمز لموت الجبل السابق موتُ الأب. لكن بقاء عبد الغني الذي شابه أباه وتعاطف مع الخونة وسخر من الوطنيين وجبن عن تحدي المخزن، يشير إلى استمرار الماضي فيما بعد الاستقلال الذي جاء من يبشر عبد الرحمن به وبعودة الملك أثناء تلقيه العزاء بالأب.
في تينك الروايتين، كما في رواية (المعلم علي ـ 1971) تبرز عناية عبد الكريم غلاب بصراع الأجيال عبر الصراع مع الاستعمار، كما يبرز امتياز المدينة على الريف (البادية) وامتياز المناضلين على الشعب. وقد سمّت الرواية الثالثة أولاء بالخلية والمجموعة مقابل الجماعة والزمرة في الروايتين السابقتين، والمسمّى واحد هو حزب الاستقلال. إلا أن رواية (المعلم علي) التي يمتد زمنها منذ عام 1930 إلى الاستقلال عام 1956، تمحَور حول شخصية العامل علي الذي ينتقل من العمل في الصناعة التقليدية إلى العمل في المجمعات الصناعية التي أنشأها الاستعمار الفرنسي. وهنا تبرز إشكالية استقدام العمال الأجانب مقابل العمالة المغربية الرخيصة الأجر، والتي يشغلها الهم الوطني أيضاً بفعل النخبة القائدة فيها. كما صورت الرواية محاكمات العمال وإعدام بعضهم في الوقت الذي كان فيه العمل النقابي محرماً على المغاربة. وقد صورت الرواية انتقال الوعي إلى العامل علي ـ الذي يحلم أن يكون معلماً ـ عبر علاقته بالمناضل عبد العزيز. فالوعي النقابي والسياسي يأتي إلى العمال من الحركة الوطنية، ولذلك يطلب علي المشورة دوماً من عبد العزيز، وعبد العزيز يلقنه الدرس النضالي والنقابي ملحاً على أولوية الاستقلال على المطالب النقابية المحضة.
من زوايا أخرى ومختلفة يصور مبارك ربيع ذلك الماضي في روايتيه (الطيبون ـ 1972) و(الريح الشتوية ـ 1977). ففي الأخيرة، وفي حي الكاريان سنطرال من مدينة الدار البيضاء ـ وبمثل عناية روايات غلاب بالاثنوغرافي في مدينة فاس ـ تصور الرواية مآل العربي الحمدوني ـ بعد اغتصاب أرضه في القرية ـ في المعامل الجديدة، شان غيره من العمال الصناعيين الذي فروا من الريف والبوادي جراء الاغتصاب الاستعماري للأرض، وتجمعوا في الأحياء الطرفية. وقد ادعى الحمدوني ـ مثل المذكوري ـ على المغتصب، وحاول محاميه إقناعه بأن قضية أرضه رهن بالتحرر من الاستعمار. إلا أن الوعي بحقيقة الاستعمار يأتي إلى الحيّ بشخصية (العالم) ومساعده الشاب. وتتوقف الرواية عند بداية ظهور الوعي والنشاط العمالي والمجابهة العفوية مع المستعمر. وقبل ذلك كانت رواية (الطيبون) قد شُغِلَتْ أيضاً بقضية المطرودين من أريافهم عبر شخصية قاسم الذي اغتصب عمه أرضه فرحل مع أمه إلى المدينة، بينما تابع عمه الاغتصاب بحماية المستعمر الفرنسي. لكن تجربة قاسم المدينية ستمضي إلى الجامعة والمشروع الثوري الذي سلكه صديقه عزوز، فها هنا الوكد هو على الشباب المثقف، في ظلّ هيمنة أكبر للراوي منها في (الريح الشتوية). وفي جريان خطي للزمن الروائي الذي تتعالق فيه مرحلة ما قبل الاستقلال بما بعدها، مثلما هو الأمر في رواية ليلى أبو زيد (عام الفيل ـ 1983) حيث الإشارة في العنوان هي إلى عام الاستقلال 1956. وقد صورت هذه الرواية ـ بالتعويل على الذاكرة الشعبية، وبعيداً عن التاريخ الرسمي ـ مساهمة المرأة من أجل الاستقلال عبر دور شخصية زهرة في حركة المقاومة السرية للاستعمار. لكن زوج زهرة سيطلقها بعد الاستقلال ليمضي صعداً وبعيداً عن المناضلة ودعواها بتحرر المرأة.
في الجزائر كان للرواية والتحرر الوطني شأن آخر اشتبكت فيه التسجيلية والتأرخة والتمجيد بالتخييل والتجريب والحفرية النقدية. لكن السبق كان للكتابة بالفرنسية مما تمثل له ثلاثية محمد ديب (الدار الكبيرة الحريق ـ النول) وذلك في أعوام 1952 ـ 1954 ـ 1957 بالتتالي. أما الكتابة بالعربية فقد عادت إلى عهد البداية الروائية في رواية نور الدين بوجدره (الحريق ـ 1957). على أن الانتظار لم يطل بعد الاستقلال كي تواكب الرواية العربية في الجزائر ما حققته من تطور في مصر أو سورية وسواهما، مع تعلق تلك المواكبة بالتحرر الوطني وبخاصة بسنوات الثورة الجزائرية 1954 ـ 1962. وتذهب الإشارة هنا أولاً إلى رواية الطاهر وطار (اللاز ـ 1972) التي قدمت قراءة فنية نقدية لزمن الثورة إبان قيام جبهة التحرير الوطني والصراعات التي امتدت ـ وإن تبدلت ـ إلى ما بعد الاستقلال.
وقد كان الرهان الأكبر لرواية (اللاز) في التعبير عن كل ذلك على ما أبدعت من الشخصية الروائية (اللاز وأبوه زيدان بخاصة) في منعرجاتها الروحية والسياسية والجسدية والفكرية، عبر تداخل زمن الثورة بزمن الاستقلال. وستعود الرواية الأولى التي كتبها رشيد بو جدرة بالعربية (التفكك ـ 1982) إلى ما شغل (اللاز) من أمر الحزب الشيوعي الجزائري في الثورة، ومن المآل الذي أفضى إليه الاستقلال، من خلال شخصية حقيقية هي الطاهر الغمري (الشيوعي)، الذي يكتب ليلياته معرياً التاريخ الرسمي، بينما تقدح ابنة الجيل التالي سالمة ذاكرته وهي تقدم سيرتها، فتشتبك السيرتان في إهاب فني تجريبي كالعهد بكتابة بوجدرة الروائية، بحيث يصير الزمن زئبقياً ما بين الاحتلال الفرنسي للجزائر 1830 وأحداث 1945 وانقلاب 1965.. فتنشط الذاكرة والحلم وتغدو شخصية الطاهر التاريخية شخصية روائية متخيلة، بينما يتفتت الخطاب السردي وتتناسل الحكايا وتتعدد وتتداخل المستويات، على نحو لا يوفر محرماً سياسياً أو جنسياً، هو بمثابة إعلان عن منطق التفكك في العالم الروائي كمنطق التفكك في تاريخ الكفاح من أجل التحرر الوطني من أمس الثورة إلى غد الاستقلال.
مع واسيني الأعرج تمعن هذه المغامرة الحداثية التجريبية في سبيل آخر من سبل الرواية والتحرر الوطني. ففي رواية (نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفري ـ 1983) يغدو من ناضل من أجل التحرير (صالح) مهرباً على الحدود الجزائرية المغربية كي يحصل لقمة العيش بعدما لفظه النصر / الاستقلال. وهو إذ يلعن مآله إلى ما يعّده مهنة الكلاب وصنعةً فاسدة، يحمل بندقيته أمام خطر رجال الحدود والجمارك والمهربين، مثلما كان يحملها زمن الثورة ضد الاستعمار مردداً (بيار راحْ وموحْ جاء) وموحّداً بين زمني الاستعمار والاستقلال وبين سلطتيهما. أما اللعبة الفنية التي ستظل تتخلق في تجربة واسيني الأعرج فهي تَعَالقُ الرواية مع التراث السردي الشعبي. فرواية (نوار اللوز..) إذ تصور تغريبة بطلها صالح، تنادي تغريبة بني هلال، وإذا بلونجا حبيبة صالح هي الجازية، والسبايبي الإقطاعي وأحد أذناب السلطة الاستقلالية هو مرة الحسن بن سرحان شقيق الجازية ورمز السلطة في السيرة الهلالية، وهو مرة أخرى أبو زيد الهلالي الذي تعيد الرواية تشكيل شخصيته مثل دياب وغيره من شخصيات السيرة، ليظهروا على نقيض مألوفهم، وليصير بنو هلال كما هم بنو صالح بن عامر (بني كلبون) وهو الاسم الذي ستطلقه أيضاً رواية الكاتب (سيدة المقام ـ 1995) على جماهير الخنوع، كما ستطلق اسم بني كلبون رواية (زمن النمرود ـ 985) للحبيب السائح وهي تعود أيضاً إلى سنوات الثورة وما قبلها ـ ثورة ابن باديس 1936 ـ فيما تهتك عورات المآل الاستقلالي. وكانت رواية (نوار اللوز) قد استعادت مقاومة مدينة سيدي بلعباس للاحتلال وما كان من عملائه (القياد). وسوف توالي رواية واسيني الأعرج (ما تبقى من سيرة لخضر حمروش ـ 1986) سيرة صالح بن عامر الزوفري، حيث يستعيد ما كان من سجنه وموت زوجته بالتعالق مع السيرة الهلالية.
إذا كان تمجيد بطولة الثائر لا يغيب عن هذا الخطاب الروائي، فما يؤسس هذا الخطاب هو النقدية بما تعنيه من التعرية والجهر بالمسكوت عنه واختراق المحرمات أياً كانت. وهذا ما تعزز من الجيل المؤسس إلى من تلوا. ومن روايات أولاء تأتي رواية أمين الزاوي (صهيل الجسد ـ 1983) بشخصية الحاج المكي الذي يدرس القرآن ويتعاون مع المستعمر ويقمع الفلاحين ويحاول إبقاء ابنه السي موح بعيداً. لكن ما يكتسبه الابن من الفكر في غربته يقوده إلى الثورة. أما عبد الحميد هدوقه من السابقين (1925 ـ 1996) فسوف تشغل رواياته تحولات ما بعد الاستقلال، شأن الجميع، إلا أنه سيعود إلى الماضي في روايته الأخيرة (غداً يوم جديد ـ 1991) ليصور مصرع المخفي بن المرابط الذي كان من أصدقاء شكيب أرسلان وينادي بالوحدة من المحيط إلى الخليج، ويقال فيه إنه شيوعي وإنه قاطع طريق قتله الاحتلال لأنه نظم في الجبال جماعات مسلحة تصادر أموال الأثرياء لتشتري السلاح. وقد أضفت المخيلة الشعبية من لدنها على المخفي فذهبت على أنه لم يقتل، بل اختفى كالمهدي، وسيعود في زمن آخر.
لقد ألوى الصراع الذي نشب في الجزائر منذ مطلع العقد الأخير في القرن العشرين، بما بين الرواية والتحرر الوطني عن الماضي نحو الراهن، فبات حضور الماضي ثانوياً، شانه في تونس منذ الاستقلال. فقد جاء هذا الحضور في الريادة الروائية لمحمد العروسي المطوي ابتداءً من روايته (ومن الضحايا ـ 1956) ثم في روايتيه (حليمة ـ 1964) و(التوت المر ـ 1967) حيث كانت العودة إلى لحظات شتّى من الكفاح ضد الاستعمار. وهذا ما تابعته أيضاً روايتا محمد المختار جنّات (أرجوان ـ 1970) و(نوافذ الزمن ـ 1974) ورواية محمد صالح الجابري (يوم من أيام زمرة ـ 1968). فقد عادت الأولى إلى أحداث 1952 ـ 1954 بينما تركزت الثانية في أحداث بنزرت ـ 1963 ـ 1964 التي تتوجت بالجلاء. أما رواية الجابري فقد استعادت أكثر من لحظة من لحظات الانتفاض على الاحتلال، ممجدة بطولة المناضلين. بيد أن هذه الروايات ناءت بثقل التأرخة والتسجيلية والشعارية، وجاءت شخصياتها منمطة، بخلاف النزوع الحداثي التجريبي الذي وسم انطلاقة الرواية في تونس، وانعطافها غالباً عن الماضي إلى الراهن.
ولعل المفارقة هنا أن ما حققته رواية واحدة في موريتانيا ـ هي (الأسماء المتغيرة 198 ـ 99) لأحمد ولد عبد القادر قد تجاوز ما حققته روايات المطوي وجنات في تونس، من حيث عمارتها الفنية المؤثثة بالرسائل والأمثال والمواعظ والأشعار والحكايات الخرافية، ومن حيث الاشتغال على الهوية والشخصية الوطنية وتداخل الصراع الوطني ضد الاستعمار الفرنسي بالصراع الطبقي، والمضي بذلك إلى معارضة السلطة الاستقلالية، وكل ذلك عبر حبكة دقيقة توازت فيها السردية التاريخية لما بين 1891 ـ 1977 مع سردية الشخصية المحورية منذ اختُطِف طفلاً وبيع عبداً إلى أن قبض عليه الاحتلال، وإلى أن غدا معارضاً بعد الاستقلال، وتبدلت أسماؤه من محطة إلى محطة.
على هذا النحو بدا ما كان للرواية والتحرر الوطني في مرحلة ما بعد الكولونيالية، وذلك بفعل تأخر بعض الاستقلالات بالاقتران مع تأخر ظهور أو نضج الرواية في بعض البلدان. لكن عوامل أخرى سوى ذلك كان لها آثار متفاوتة حيث تأخر ظهور ونضج الرواية أيضاً أو حيث تحقق. ففي اليمن حيث ورث الانجليز الأتراك في شطره الجنوبي، طال الانتظار حتى جاءت رواية محمود الصغيري (الميناء القديم ـ 1978) في إهاب تقليدي لتسرد ذكريات الناخودة عن (سنة القيامة) على الأتراك وقيادة الإمام للثورة في صنعاء، ثم انقلابه على من بايعوه واستقدام الأتراك ثانية. كما تسرد الرواية مقاومة المحاولة الأنجليزية لاحتلال الحديدة، ومقاومة القبائل في الشطر الجنوبي للاحتلال الانجليزي. وعبر لعبة كتاب الحاج أسعد الدستوري، مؤرخاً لليمن، تبلغ الرواية ثورة الدستوريين على الإمام يحي عام 1948. وهذا ما ستعود إليه عبوراً رواية محمد مثنى (ربيع الجبال ـ 1983) مثل العبور بزمن المحميات الجنوبية تحت الاحتلال الانكليزي، فوكد الرواية هو ما بعد ثورة 1962 وإعلان الجمهورية. أما في السعودية فسيطول الانتظار أيضاً حتى تأتي خماسية عبد الرحمن منيف (مدن الملح ـ 1984 / 1988) التي تفردت فيما أبدع تخييلها من تاريخ الجزيرة العربية، حيث جاء اللبوس الاستعماري الانكليزي الأمريكي غير تقليدي، في إهاب شركات النفط والتغلغل في بنية السلطة والدولة. وسوف يغدو هذا اللبوس الجديد عنوان مرحلة ما بعد الكولونيالة في ذلك الإهاب نفسه أو في سواه، دون أن يغيب اللبوس القديم نهائياً كما هو الأمر في فلسطين أو كما كان في مصر عام 1956، وما أفضت إليه هزيمة 1967 من الاحتلال الاسرائيلي لسيناء والجولان والجنوب اللبناني، ثم الاحتلال الاسرائيلي لبيروت عام 1982 وصولاً إلى عاصفة الصحراء عام 1991 في الكويت والعراق. وقد كان لكل ذلك فعله العميق والمعقد فيما بين الرواية والتحرر الوطني، وفيهما، وبخاصة أن مرحلة ما بعد الكولونيالية تعنونت عربياً باستفحال الاستبداد، وبتبدد حركات التحرر الوطني المعارضة والحاكمة، مثلما تعنونت بالهيمنة الأمريكية وبالعولمة.
لقد تباين الفعل العميق والمعقد لذلك في الرواية بين الحفر في التاريخ ـ وهو ما اشتبه أيضاً بالهرب من مواجهة الراهن ـ وبين مواجهة الراهن مما أسفر عما عرف برواية السجن أو برواية الحرب. ويبدو أن الحفر في التاريخ قد كان له في سورية الحضور الأكبر، على أن بعض ما يُنظر إليه كتاريخ (ولو قريب) كان قبل أربعة أو خمسة عقود أو أكثر راهناً بالنسبة لأحدهم أو إحداهن. وهذا ما كان في روايات حنا مينا (المصابيح الزرق ـ 1954) و(الشراع والعاصفة ـ 1966) و(الشمس في يوم غائم طويل ـ 1973)، وكذلك في ثلاثيته (بقايا صور)، إذ صور الكاتب لحظات مختلفة من مقاومة الاستعمار الفرنسي في سورية. وهذا ما كان أيضاً في الروايات التي عاصر كتابها نكبة فلسطين عام 1948 وذيولها أو كانوا قريبي العهد بها مثل رواية حليم بركات (ستة أيام ـ 1961) ورواية ماجدة العطار (مراهقة 1966) ورواية بديع حقي (عرس فلسطيني ـ 1970). ويصح ذلك على رواية ليلى اليافي (ثلوج تحت الشمس ـ 1962) التي قدم لها يحيى حقي، ويطغى فيها السياسي على الروائي، عبر ما صورت من مساهمة بطلتها في معركة بور سعيد عام 1956.
لكن الوكد هنا يذهب إلى ما تواتر منذ ثمانينيات القرن الماضي، مما مهدت له رواية صدقي اسماعيل (العصاة ـ 964) وروايات فارس زرزور (لن تسقط المدينة ـ 1969) و(حسن جبل ـ 1969) و(الأشقياء والسادة ـ 1971). ولئن كانت رواية إلفة الإدلبي (دمشق يا بسمة الحزن ـ 1980) ستوالي النهج التقليدي لتلك الروايات، كما سيفعل أيضاً نهاد سيريس في ثنائيته (رياح الشمال ـ 1989) وناديا خوست في (حب في بلاد الشام ـ 1995)، لئن كان ذلك، فإن مغامرة روائية أخرى ستبدأ منذ رواية هاني الراهب (الوباء ـ 1982) وتتعزز بثلاثية خيري الذهبي (التحولات ـ 1987) ورباعية نبيل سليمان (مدارات الشرق ـ 1990) ورواية ممدوح عزام (قصر المطر ـ 1998)... مما يعنونه البحث عن جذور ومسارات التحرر الوطني في النصف الأول من القرن العشرين بخاصة، وما آل إليه في فيما بعد الكولونيالية.
في مصر تنبغي الإشارة إلى رواية أمين الريان (القاهرة 51) والتي صدرت عام 1956 وشُغِلتْ بمساهمة الفنان التشكيلي في اللجنة الوطنية قبل الجلاء وصولاً إلى مساهمته في العمل الفدائي في بور سعيد عام 1956. وقد عاد إدوار الخراط في (رامة والتنين ـ 1980) إلى تجربته في السجن أواخر أربعينيات القرن الماضي، إبّان الموران الشعبي ضد الاحتلال والسلطة. كما عاد جميل عطية ابراهيم في (أوراق اسكندرية ـ 1997) إلى ما بين 1919 ـ 1922 في الاسكندرية عبر وثائق مجهولة تضيء تلك اللحظة المبكرة من الكفاح ضد الاحتلال، وتصله بهزيمة 1967 وبنهاية القرن العشرين. لكن رواية (الباب المفتوح ـ 1960) للطيفة الزيات (1923 ـ 1996) قد تكون رواية التحرر الوطني بامتياز، وهي التي يمتد زمنها ما بين 1946 و1956، وتقدم في إهاب سيري شخصية ليلى التي يعاقبها الأب على انخراطها في مظاهرة 26/ 2 / 1946 لتقدم البداية الحاسمة للانعتاق من الاحتلال مع البداية الحاسمة لوعي الأسرة الموزعة بين أبٍ يربكه بلوغ ابنته، وأخ يعاضد تفتّحها، والخطيب الذي تحاصرها غيرته ويعاملها ـ وهو أستاذ جامعي ـ كتابع. ولعل امتياز هذه الرواية يتمثل في منظورها النسوي إزاء الواقع الاجتماعي والسياسي والشخصي، وإزاء بناء النماذج الإنسانية مما جسدته ليلى كشخصية روائية رهيفة ومترددة ومتسائلة بلا خطابية. ولم يكن تصوير الرواية لشخصياتها الأخرى ـ وبخاصة الجيل الشاب ـ بأقل مكنةً مما كان لليلى.
أما في العراق فقد بدت الرواية مشبوحة بين قطب التوتر الاجتماعي والسياسي في الماضي، وقطب الديكتاتورية والحرب منذ حرب الخليج الأولى. ولعل ذلك ما يضاعف من أهمية رواية عبد الخالق الركابي (مكابدات عبد الله العاشق ـ 1982) التي توسلت الجيلية من الجد إلى الابن ـ وقد تعنونت الرواية باسمه ـ إلى الحفيد لتغطي زمنها الممتد بين الاستعمار التركي والاستعمار الانكليزي. لكن إنجاز الركابي الأكبر سيلي في روايته (سابع أيام الخلق ـ 1994) والتي حفرت في التراث السردي ولعبت لعبة الميتارواية بحذاقة، وكانت ثورة العشرين في العراق وانبثاق الدولة الملكية، من مفاصلها الأساسية.
إن جلّ الإشكاليات السابقة فيما بين الرواية والتحرر الوطني تتمثل في الحالة الفلسطينية، عبر مفصل نكبة 1948 بخاصة، وعبر مفصل الانتفاضة الأولى أيضاً، وما يتعالق بالمفصلين منذ مطلع القرن العشرين حتى نهايته. ويستوي في ذلك ما كتبت الرواية عن المعارك والثورات والعمل الفدائي ـ ووعي الآخر اليهودي ـ الاسرائيلي ووعي الذات ووعي العالم... من منظور نقدي أو منظور تمجيدي وفي إهاب تقليدي أو في إهاب حداثي وتجريبي يتساوق ويتفاعل مع ما بلغه تطور الرواية العربية. وتذهب الإشارة هنا بقوة إلى إبداعات غسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا وإميل حبيبي. لكن ذلك وحده يقصّر عن الدفق الروائي الفلسطيني بعد هزيمة 1967، ومنه روايتا سحر خليفة (الصبار ـ 1976) و(عباد الشمس ـ 1980) في تصويرهما لمكابدات القاع الاجتماعي الفلسطيني جراء الاحتلال. وكذلك روايتها (باب الساحة ـ 1990) في تصويرها لذلك القاع زمن الانتفاضة الأولى، وبخاصة للمرأة، كما هو الشان في روايات خليفة. وقد اكتفى بعض الكتاب بإشارات عابرة أو نزرة للانتفاضة الأولى كما في رواية أفنان القاسم (موسى وجولييت ـ 1991) ورواية ليلى الأطرش (ليلتان وظل امرأة ـ 1998)، بينما انبنت روايات أخرى ـ مثل (باب الساحة) ـ من وبزمن الانتفاضة في تفاصيله وتناقضاته وفعله في الإنسان روحياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وجسدياً، كما في رواية أحمد حرب (أرض المعاد ـ 1990) ورواية عزت الغزاوي (الحواف ـ 1993) ورواية رشاد أبو شاور (شبابيك زينب ـ 1994). وإذا كان سؤال الشهادة على الراهن يبدو مباشراً في مثل هذه الروايات، فقد ظل سؤال الأمس القريب والبعيد ـ سؤال التاريخ ـ فاعلاً روائياً أكبر. وفي ذلك كتب وليد أبو بكر (الحنونة ـ 1985) عن ثورة القسام، وكتب رشاد أبو شاور (أيام الحب والموت ـ 1973) عن الخليل منذ الثلاثينات حتى 1948، وعن مفصل 1948 كتب حسن حميد (السواد ـ 1988) ويحيى يخلف (بحيرة وراء الريح ـ 1991)... وإذا كان لابد هنا من الإشارة إلى إشكالية نسبة بعض الكتاب إلى الأردن أو فلسطين (ابراهيم نصر الله مثلاً)، فلعل الأَوْلى أن يُنظر إلى هذه الإشكالية أو سواها من منظور الرواية العربية والتحرر الوطني. وبذلك تكون واحدةً من قطب هذا النسيج المعقد والثري روايةُ أمين شنار (الكابوس ـ 1968) حين تبحر فيما بين مؤتمر بال وهزيمة 1968، أو رواية مؤنس الرزاز (متاهة الأعراب في ناطحات السحاب ـ 1986) حين تبحر من بطن القرون السالفة إلى مقاومة الأتراك أو مقاومة الهيمنة الأمريكية، وكذلك حين تتركز رواية سميحة خريس (القرمية ـ 1999) فيما بين الثورة العربية الكبرى ومعاهدة سايكس بيكو. فهذه القطب في ذلك النسيج شأنها شأن رواية منى جبور في لبنان (فتاة تافهة ـ 1962) حيث تبزغ أنوثة اللغة في رفض الاستعمار الفرنسي للبنان، أو شأن رواية الياس خوري (رحلة غاندي الصغير ـ 1989) فيما صورت من مقاومة الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982.
لقد اصطخب هذا السياق للرواية والتحرر الوطني بأسئلة الهوية والآخر، بأسئلة السياسي والفكري والتقليدي والحداثي والتاريخي والتسجيلي والسيري.. ويبدو أن السياق يتوالى في اصطخاب جديد مع ما أهلّ به القرن الجديد ابتداءً بتحرير الجنوب اللبناني وليس انتهاءً باحتلال العراق.
..................

حصرها في ثماني قضايا . الرواية العربية بين المغامرة فنياً ورصد الواقع دلالياً

الكتاب: قضايا الرواية العربية
في نهاية القرن العشرين
المؤلف: مصطفى عبدالغني
الناشر: الدار المصرية - اللبنانية
يؤكد كثير من الباحثين ان الرواية نشأت نتيجة تغير شبكة العلاقات الاجتماعية، وكسر منظومات عدة من أنماط القيم والتقاليد التي حلت في المجتمعات الاوروبية في بداية القرن السابع عشر. فإذا كان هيغل يؤكد - بناء على هذه التحولات - سعي الرواية الى التعبير عن مجتمع منظم بطريقة نثرية، فإن لوكاش يفترض ان الرواية خطاب البورجوازية المغلق، في حين يسميها باختين - رغم ماركسيته - النص المفتوح. وفي عالمنا العربي لا يختلف اثنان على فضل الغرب في دخول الرواية مجال الابداع، على رغم تأخر ظهورها حتى نهايات القرن التاسع عشر، وعلى رغم المحاولات الكثيرة للبحث لها عن أصول في تراثنا العربي.
وربما اتفق الباحثون - كذلك - باضطلاعها بمجموعة من القضايا والرؤى أفرزها التوافق في هموم المثقف العربي الناتج عن وقوع معظم الدول العربية تحت نير الاستــعمار، ولذلك فإن معظم الروايات، في فترة العشرينات والثلاثينات من هذا القرن طالها المد التاريخي والرومانسي كما في كتابات طه حسين ومحمد حسين هيكل وجورجي زيدان، بينما تعتبر كتابات نجيب محفوظ نموذجاً للواقعية الاجتماعية منذ نهاية الثلاثيــنات وحتى منتـصف الســتيـنات.
والكتاب الذي نعرضه يثير مجموعة من الاشكالات والقضايا المرتبطة بواقع الرواية العربية، بعد تجاوز النموذج المحفوظي الى آفاق أبعد، قد يطلق البعض عليها التجريب او النهايات المفتوحة او الحداثة او الحالة. ويشير المؤلف الى ان لغة الكتابة تنوعت في كل اقليم عربي، فإذا كان الروائي الفلسطيني يدعو - قبل مدريد وبعدها - الى لغة القوة بديلاً عن لغة الحكم الذاتي والحصار اليومي والاستفزاز المستمر، فإن الروائي في لبنان يطرح اشكالية الغرب والموقف منه، في حين يقدم الروائي الخليجي نفسه عبر رياح التغيير العاتية في منطقته، فيما الروائي في مصر او المغرب يغالب الواقع المعاش بأنظمته الراديكالية وما يعتمل داخلها من فساد وضياع للديموقراطية. هذا في ظل اطار عالمي جديد تغير فيه المسمى من "الانكلزة" الى "الامركة"، واستبدلت بريطانيا العظمى بـ"العولمة" وتسمّت باسم الامم المتحدة الاميركية.
ومن ثم يصبح البحث عن الذات - في ظل هذه المتغيرات - مطلباً انسانياً، على رغم تعدد هذه الذوات في عالم تسيطر فيه بشاعة "الميديا" الغربية. هذه التعددية وتغير الانظمة صاحبها وعي عربي أقل معرفة بالواقع، وعلى رغم ذلك، جاوزت الرواية هذا الواقع بسؤالها المؤلم عن الهوية بطرح ما يخصها من قضايا سلكت أحد طريقين: طريق الدلالة في ما هو بحث عن المعنى، وطريق المغامرة الفنية في ما هو بحث عن المبنى.
يصنف المؤلف في عرضه قضية "المستقبل" - كإحدى القضايا التي تطرحها الرواية العربية - نموذج "البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا ضمن الروايات التي اتخذت طريق الدلالة سمتاً لها مع قليل من المغامرة الفنية المتخفية وراء النسيج الدرامي، ويلجأ الكاتب الى الحياد الروائي كحيلة في الكشف عن هويته، ذلك الحـياد الملتبس بثلاثية الحق والقوة والوعي. كما يلجأ الى حيلة الاصوات المنتقاة كما فعلها داريل في رباعيته عن الاسكندرية ووليم فوكنر في "الصخب والعنف"، لذلك فإن شخصية "جواد حسني" أكثر الشخصيات وعياً بالحياد الذي يصيغه في الرواية، وهي شخـصية يرى المؤلف انها تتطابق مع المؤلف الحقيقي خارج النص. فجبرا يقول في بداية الرواية "إن ما يقوله بولس عن بطرس يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس"، ما يكشف لنا ان شخصية "جواد حسني" هو المؤلف المعترف به داخل النص، وجبرا هو المؤلف ولكن خــارج النص.
واذا كان جواد حسني راوياً حيادياً يترك الاحداث تكشف عن نفسها في ما هو طرح لعدم "تورط" جبرا في اعلان الانتماء، فإن وليد مسعود يصبح مؤلفاً ضمنياً ووجهاً ثانياً لجبرا فيه من الفاعلية ما يكشف هذا "التورط". وبلمحة غير معلنة، ربما يكشف مصطفى عبدالغني عن ان توقيع ياسر عرفات اتفاق أوسلو ملتبس بوقف جبرا في البحث عن وليد مسعود / فلسطين.
وفي خضم هذا الاستشراف للمستقبل، يطلع علينا وجه الغرب القبيح في الرواية اللبنانية من كتـابات أمين الريحـاني الى إلياس خوري. وعلى رغم الفارق الزمني بينهما الا ان موقفهما واحد من الغرب، فهو أس البلاء وسبب المأساة، فقد شهد الريحاني نهاية العصر العثماني وبداية الاستعمار الفرنسي، بينما عاصر خوري الحرب الاهلية في لبنان. ويتوقف المؤلف عند رواية "الجبل الصغير" لإلياس خوري، ويرى انها سيرة ذاتية ملتبسة بواقع لبنان. وفي كل فصولها يقدم خوري الغرب اما مقنّعاً في صورة عربية الجنود الذين يطاردون الراوي رغم انهم لبنانيون عرب، او في صورة الاب مارسيل الذي يكشف الراوي من خـلاله عن وجه شـغوف بالغرب وحضارته يندس تحت قناع الدين، بينما الوجه الثـالث هو وجه الغرب دون قناع، حيث يرحل الراوي الى فرنسا كاشـفاً عن زيـف الادعـاءات الغربـية في الحـفاظ على حضـارة الشرق، فالمسلة المصرية القديمة في ساحة الكونكورد ليست الا نوعاً من اللصوصية التي تجيدها الامبريالية الغربية.
تتمة للمسح الجغرافي لواقع الرواية العربية، يتوقف المؤلف عند منطقة الخليج العربي ليبحث أسباب تأخر ظهور الرواية حيث يرى ان المجتمع في شرق الجزيرة العربية استحوذت عليه مجموعة من التراكمات المعرفية امتدت زمنياً وتاريخياً في الوجدان العربي، جعلت من الثقافة التراثية والتقاليد العربية شيئاً مقدساً حال دون تغييره.
ويجــمل المؤلف عدد الروائيـين والروايات التي صدرت في بين 1950 - 1978 في اثنى عشر روائياً وروائـية اصدروا ثماني وعشرين رواية نشر في البحرين سبع روايات ولم تنشر الامارات غير ثلاث، في حين نشرت الكويت ثماني عشرة رواية، ويرى ان الكويت كانت سباقة في النشر والتألـيف، لأن تجربتها شهدت قدراً كبيراً من الحرية الفكرية والسياسية، تمثلت في إنشـاء الاحزاب السـياسية وتكامل ردود الفعل القومية كما حدث في الحظر النفطي على بريطانيا وفرنسا وغيرها من مواقف سمحت بتشكيل مجتمع واعٍ عبّر عن هويته العربية خارج النص الروائي وداخله.
ويعرض المؤلف سريعاً لبعض كتابات فاطمة يوسف وفوزية العمداني وليلى العثمان من الكويت، وفوزية رشيد وعبدالله خليفة من البحرين، وعلي محمد رائد من الامارات، وكلها كتابات نشأت نتيجة رياح التغيير التي عصفت بمنطقة ظلت تهيم في فلك الثوابت والثقافات التراثية.
هذا التحول ايضاً أبرز سؤال الهوية في الرواية العراقية حيث تدرج الاهتمام بالحس القومي منذ العشرينات وحتى الثمانينات وكأنه كان علينا انتظار الحرب العراقية - الايرانية ليتبلور الوعي القدسي العربي لدى الروائيين العراقيين، سواء في الرواية التاريخية او الرواية المعركة، فيما هو انبثاق عن ادب الحرب. وتعد ثلاثية عبدالخالق الركابي "من يفتح الطلسم" و"الراووق"، و"قبل ان يلحق الباشق"، من الروايات التاريخية لاعتمادها قوى الاحتلال العثماني ركيزة اساسية في بنائها الفني، لبيان الصراع بين آل عافل العرب العراقيين والقوى المضادة لهم، ومن خلال هذا الصراع يبرز الاحساس بالهوية العربية. بينما تعد رواية "مكابدات عبدالله العاشق" لعبدالخالق الركابي ايضاً من روايات المعركة، التي يعتبر فيها الوعي الشخصي رافداً للوعي العربي، ومنها كتابات جاسم الرصيف "الفصيل الثالث" و"خط احمر" وكذلك رواية "الشمس عراقية" لعبدالستار ناصر.
ويأخذ طريق البحث عن الهوية العربية شكلاً في الرواية المغربية، حيث وقع المثقف هناك في اسر التجربة الغربية، ويتخذ المؤلف من الروائي محمد زفزاف وصيته إطاراً لاستكناه الفترة بين عام 1956 عام الاستقلال و1972 حين اصدر أولى رواياته "المرأة والوردة" وشاع فيها الاضطراب في نفس المثقف المغربي الذي ترك الغرب في عقله "مسمار جحا".
وعلى رغم بروز العديد من القضايا المطروحة في الواقع المغربي، من فوارق اجتماعية، وحرمان معيشة وألوان "التابو" التي لا تنتهي، إلا أن الموقف المحوري من الحضارة الغربية يظل اكثر الاسئلة طرحاً في الرواية المغربية.
وإذا كان المؤلف تـعامل مع قضية الغرب في فصل منفصل تناول فيه الكـتابات اللـبنانية بخاصة، فإنه يشير الى ان التناول المغربي لهذه القضية يأخذ شكلاً اكثر حدة من غيره في البلاد العربية الأخرى، حيث مازال الغزو الثقافي الفرنسي والاسباني يلقي بظلاله على شمس المغرب، ما جعل الوجدان العربي المغربي ممزقاً بين قضية الحديث والتراث.
إذا كان المؤلف في ما عرضه من قضايا المستقبل - الغرب - التغيير - التحول - الهوية - الدلالة داخـل الأعـمال الروائية تناول ما تعكسه هذه الأعمال على الملابسات البيئية والظروف الحضارية التي افرزته مما يقربنا من العلمية النقدية التي تشد الى جوارها مجموعة من المناهج النقدية كالواقعية والطبـيعية وغيرها من المنـاهج التي تبحث في طبيعة العلاقة بين المبدع والعمل الادبي، فإنه - المؤلف - في عرضه لقضــيتي التناص - اللغة تعامل مع النص من منظور داخلي، واستـنطاق لمكوناته، وهو ما عبر عنه في بداية كتابه بالمغامرة الفنية، فالتـناص يجب ان يوظف داخل العمل بحيث يكون شكلاً استدعائياً لقيمنا التاريخية والثقافية، في ضوء المشاكلة مع الحاضر، وعلى ذلك فإنه لا يصبح إحالات الى نصوص أخرى بغرض الحكمة أو الاشارة التقليدية، إذن فهو يقوم بدور الوســيلة لا الغـاية في وصـول الخـطاب الابـداعي، ثم يـعرض نمـوذجاً تطبـيـقياً لنـجاح استـخدام التناص في رواية "مجنون الحكم" لسالم حميش من المغرب.
يقدم المؤلف في عرضه قضية "الدلالة" من خلال المنهج العلمي بانوراما لأشكال الفساد الســياسي في الـنص الأدبي المصري، ويرى ان هذا الفساد ابن شرعي لمناخ افتقد كثيراً من قيم الديموقراطية، سواء في السنوات التي سبقت ثورة 1952، وتجدد في الســتينات، ثم تمدد واستفحل في عقدي السبعينات والثمانينات حين اتسعت الهوة بين الطبقات في "هوجة" الانفتاح. ويعدد المؤلف اشكال الفساد في الأعمال الروائية ففي رواية "يحدث في مصر الآن" ليوسف القعيد نجد الفساد الاداري، وفي رواية الجهيني لمصطفى نصر نجد الفساد السياسي الذي طال اسرة السادات نفسه.
اما عن تناوله قضية اللغة فقد اعتمد المؤلف رواية "ثلاثية سبيل الشــخص" لعبده جبير، وهي دراسة تكاد تنفصل عن موضوع الكـتاب، لأنها تختص بكاتب بعينه، يرصد المؤلف من خلاله التعامل مع اللـغة والزمن والتراث، في اسلوب يسم عبده جبير دون غيره من الروائيين، ولذا فإنه من الصعب تعميم المقولات التي استخلصها المؤلف في صورة ظواهر اسلوبية، على الكتابات الأخرى خارج النص المتناول.
ونخلـص من قراءتنا لهذا الكتاب ان المـؤلف حاول ان يختزل ما تثيره اشكالات الكتابة الروائية العربية في ثماني قـضايا، مما يثير معه قضية اخرى على مستوى النقد، وهي الايديولوجيا النقدية التي تستنفر مجموعة من الهموم والقضـايا لا يرى ما عداها وإلا فأين الاسطورة وكتابة الجسد، وأين كتابات ابراهيم الكـوني مثلاً، وهي تشكل على تنوعها قضية خاصة تقع في منطقة مغايرة تماماً لما طرحه الكتاب من قضايا.
...................
 


السيرة الذاتية للروائي نهاد سيريس


ولد في مدينة حلب في سورية عام 1950. ظهرت ميوله الأدبية منذ الصغر فراح يؤلف مسرحيات من فصل واحد لتقدم على خشبة المسرح المدرسي. سافر إلى بلغارية لدراسة الهندسة المدنية فحصل على الماجستير عام 1976، ثم عاد إلى الوطن ليعمل مهندساً في مكتبه الخاص.

بدأ نشاطه الأدبي الفعلي في بداية الثمانينيات فألف عدداً من الروايات والمسرحيات والدراما التلفزيونية ودراما الأطفال، وهو يعيش ويعمل ويمارس الكتابة الأدبية في مدينته حلب.


الأعمال الروائية

السرطان:
صدرت هذه الرواية لأول مرة عام سورية 1987 عن دار محمد علي الحامي في تونس ثم صدرت عن دار الحوار في عام كان مغترباً بعد 1988 ثم عن دار الفكرة بحلب عام 1995 وهي تتحدث عن عبد الله الذي عاد من الأرجنتين حيث أن أصيب بمرض عضال. انها رواية عن الأصالة والحنين إلى الطفولة وموقف من الذات والعالم.


رياح الشمال - سوق الصغير:

صدرت هذه الرواية عام 1989 عن دار الحوار في سورية، وهي رواية ملحمية عن الحرب العالمية الأولى وعن وعي الذات بعد قرون من الاستعمار العثماني التركي . كما ترصد الرواية أحداث الحرب وفق رؤية شخصياتها المنتمين إلى مدينة حلب وترصد تفتح الوعي القومي والتنويري في تلك الفترة . انها ترسم حياة الناس والجوع والحرمان عبر قصة ثلاثة شبان يساقون إلى جبهات الحرب المختلفة فتحدد الحرب مصير كل واحد منهم بشكل مختلف عن الآخر.
سوق الصغير هو عنوان الجزء الأول من ثلاثية رياح الشمال.


الكوميديا الفلاحية:

صدرت عام 1990 في دمشق بإصدار خاص. تحكي هذه الرواية عن العشائر التي تهجر الصحراء بسبب الصراعات القبلية فتسكن محيط مدينة حلب في حي البداوة . يقوم هؤلاء الناس بغزو المدينة والتأثير فيها فتنتقل عدوى البداوة منهم إليها فتعود روح القبيلة لتسود على حساب المجتمع المدني.

رياح الشمال - 1917:

انها الجزء الثاني من ثلاثية رياح الشمال وقد صدر عام 1993 عن دار الإنماء الحضاري بحلب. نتابع في هذا الجزء تطور شخصيات الرواية التي عرفناها في الجزء الأول.

حالة شغف:

صدرت عام 1998 عن دار عطية في بيروت ثم عام 2005عن دار ورد بدمشق. ترصد الرواية عالم النساء والطرب النسائي في المدينة خلال ثلاثينيات هذا القرن . انها رواية مشوقة عن حالة شغف بامرأة أصابت الرجال والنساء على السواء. حالة شغف بامرأة ثم شغف بالحكاية تنتقل بعد ذلك إلى القارئ.

الصمت والصخب:

صدرت عام 2004 عن دار الآداب في بيروت. ترصد الرواية أربعاً وعشرين ساعة من حياة بطلها "فتحي شين" الذي تعرض لقمع السلطات لأنه رفض الاشتراك في الدعاية للزعيم ففرض عليه الصمت. الصمت هو صمت البطل بينما الصخب هو صخب الشارع الذي يهتف للديكتاتور.


خان الحرير:

صدرت عام 2005 عن دار كنعان للدراسات والنشر في دمشق.

الدراما التلفزيونية


خان الحرير - الجزء :1

صور هذا المسلسل وعرض في بداية عام 1996 وحظي بشعبية كبيرة جداً. تدور أحداث المسلسل في فترة الخمسينيات من تاريخ سورية حين حدث صراع سياسي خطير أدى في النهاية إلى الوحدة السورية المصرية
الثريا:
عرض هذا المسلسل الضخم في بداية عام 1997 وحظي ايضاً بشعبية كبيرة ونال الجائزة الفضية في مسابقة الأعمال الاجتماعية في مهرجان القاهرة للمسلسلات والبرامج التلفزيونية في نفس العام. يرصد المسلسل حياة أسرة باشا من أصول تركية عشية وصبيحة خروج العثمانيين من سورية ثم دخول الفرنسيين. يعتبر المسلسل ملحمة عن البطولة الفردية والعشق فيرصد قصة حب نادرة بين ثريا ابنة الباشا وأحد قطاع الطرق المناوئين للأتراك. يرصد ايضاً بدايات التنوير في المجتمع السوري. يأتي المسلسل بثلاث وثلاثين حلقة.

خان الحرير - الجزء 2:

عرض عام 1998 ونال رضى المشاهدين، وهو من انتاج محطة أوربيت الفضائية. نتابع في هذا المسلسل الأوضاع في سورية في عهد الوحدة السورية المصرية وتأثيرها على مصائر الشخصيات التي عرفناها في الجزء الأول. تستمر أحداث المسلسل حتى يوم الانفصال عن مصر وانفراط عقد الوحدة. يحاول المسلسل البحث عن سبب الانفصال وتحديد المسؤول عنه بجرأة. أثار هذا المسلسل جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية الشعبية والرسمية.
يأتي المسلسل بخمس وعشرين حلقة، والمسلسلات الثلاثة من إخراج هيثم حقي.


الخيط الأبيض:

مسلسل من ثمانية وعشرين حلقة صور وعرض على المحطات الفضائية عام 2004. يحكي المسلسل عن البرامج الحوارية في التلفزيون وعن حرية التعبير. 

جبران خليل جبران - الملاك الثائر:

هذا المسلسل يُعنى بالفترة التي سبقت ولادة جبران وحتى بداية تسجيله لنجاحاته في عالم الفن والأدب. كيف مر في هذه الرحلة وماهي المصاعب والتحديات الأليمة التي واجهها وهو صغير ثم في بداية تفتحه الفني وهو شاب. ماهي الظروف والأشخاص الذين تأثر بهم جبران الصغير ثم الشاب ليصبح فيما بعد على الصورة التي عرفناه بها؟ يحاول المسلسل ان يجيب على هذه الأسئلة بطريقة درامية وفنية عالية المستوى مستعيناً بالأرشيف عن حياة جبران وأدبه وبالدراسات التي قام بها المؤلف في لبنان وأميركا. عرض المسلسل على الفضائيات العربية لأول مرة عام 2008

دراما الأطفال

اللغز:
قصة ثلاثة أولاد في المرحلة الابتدائية يهوون قراءة القصص البوليسية فيقعون تحت تأثيرها حين يشكون بشخصين غريبين فيحسبونهما من المجرمين. يطاردون الشخصين وينصبون لهما الشراك، إلا انهم يستنتجون أخيراً ان الرجلين بريئان.
المسلسل من خمس حلقات وقد عرض عام 1994 ونال الجائزة البرونزية في مهرجان القاهرة الدولي لأفلام الأطفال عام 1995 وهو من إخراج ليالي بدر.

قضية تمام:

قصة طفل يحاول منع أبويه من الطلاق بعد أن اصبح التفاهم بينهما مستحيلاً. يستخدم كل الوسائل من أجل ذلك فينجح أخيراً حين يستخدم كاميرا فيديو منزلية فيصور بها اعترافات كل منهما ليعرضها على الآخر.
المسلسل من ثماني حلقات وعرض عام 1999 وحول إلى فيلم طويل بثمانين دقيقة، وهو من إخراج محمد الشيخ نجيب.



المسرح

بيت الألعاب - صانع القوانين:
مسرحية من فصل واحد عن السيد الذي يحصل على تابع فيجعله يلعب لعبة معينة يضع هو قوانينها ويغيرها باستمرار ليظل الرابح فيها. انها مسرحية عن القانون والاستبداد والحب والتضحية.
نشرت في الملحق الثقافي لجريدة "الثورة" السورية عام 1997 ويجري التحضير لعرضها على خشبة المسرح.


ليل الضرة:

مسرحية من فصل واحد عن الوحدة والغيرة والخوف والطمع الإنساني، بطلتها امرأة تزوج زوجها عليها من امرأة أخرى، فتسعى لابقائه عندها فتبوح له بكل ألمها وغيرتها.

البيانو:

مسرحية من فصل واحد يتواجه فيها رجل وامرأة كانا يحبان بعضهما ولكن المرأة هجرته لتتزوج من صديقه الغني خوفاً من الفقر.
عرضت مسرحيتا ليل الضرة والبيانو في عرض مسرحي واحد تحت عنوان: رجال ونساء، في المسرح القومي بمدينة حلب خريف عام 1999 إخراج فراس نعناع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تركيا النضال و المقاومة .الرفيق عبد الهادي بنصغير

تركيا النضال و المقاومة . La police du sultan ottoman réprime hier , place Galatasaray à Istanbul , les manifestantes de l'association...